فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي: بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة. قال الزمخشري: أحيط به عبارة عن إهلاكه. وأوصله من من أحاط به العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه. ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66].
ومثله قولهم: أتى عليه إذا أهلكه. من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعليًا عليهم. يعني أنه استعارة تمثيلية. شبه إهلاك جنتيه بما فيهما، بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم. كما أن أتى عليهم بمعنى أهلكهم، استعارة أيضا، من إتيان عدو غالب مستعل عليهم بالقهر: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي: فعيّر نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه. قال الزمخشري: تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر. لأن النادم يقلب كفيه ظهرًا لبطن. كما كني عن ذلك بعضِّ الكف، والسقوط في اليد. ولأنه في معنى الندم، عدّي تعديته بعلى كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق فيها، أي: في عمارتها. فيكون ظرفًا لغوًا. ويجوز كونه ظرفًا مستقرًَّا متعلقه خاص، وهو حال. أي: متحسرًا. والتحسر الحزن. وهو أخص من الندم. لأنه- كما قال الراغب- الغم على ما فات: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي: ساقطة عليها. والعروش جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليه الشيء. فإذا سقط سقط ما عليه. يعني أن كرومها المعروشة، سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم، بحيث قاربت أن تصير صعيدًا زلقًا: {وَيَقُولُ} عطف على يقلب: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: من الأوثان. وذلك أنه تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه. فتمنى لو لم يكن مشركًا حتى لا يهلك الله بستانه.
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} أي: منعة وقوم: {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: يقدرون على نصرته من دون الله، كما افتخر بهم واستعز على صاحبه: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} أي: ممتنعًا بنفسه وقوته عن انتقام الله.
{هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} أي: قي ذلك المقام وتلك الحالة التي وقع فيها الإهلاك. الولاية بفتح الواو أي: النصرة لله وحده، لا يقدر عليها أحد غيره. فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ} لأنها بمعناها. أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على المشركين وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدَّق قوله: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف: 40] ويعضده قوله تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي: لأوليائه. فلا ينقص لمؤمن درجة، في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه. وقرئ: {الولاية} بكسر الواو بمعنى السلطان والملك. أي: هنالك السلطان له والملك. لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر. يعني أن: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 42]، كلمة ألجئ إليها فقالها، جزعًا مما دهاه من شؤم كفره. ولولا ذلك لم يقلها. كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 84] في المطبوع خطأ في كتابة الآية.
وكقوله إخبارًا عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90- 91]، أو هنالك إشارة إلى الآخرة. أي: في تلك الدار الولاية لله. كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] ويناسبه قوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}. وهنالك على الأوجه المتقدمة، خبر مقدم والولاية مبتدأ مؤخر. والوقف على منتصرًا. وجوز بعضهم كون هنالك معمولًا لمنتصرًا وإن الوقف عليه. أي: على هنالك وإن الولاية لله جملة من مبتدأ وخبر مستأنفة. أي: وما كان منتصرًا في ذلك الوطن الذي حل به عذاب الله. فلم يكن منقذ له منه.
وأقول: هذا الثاني ركيك جدًّا، مفكك لرؤوس الآي في السورة. فإنها قطعت كلها بالاسم المنصوب. وشبهة قائله جوازه عربيةً. وما كل جائز عربية رقيق الحواشي بلاغة. ولذلك لم يعول عليه الزمخشري ومن تابعه. والحق قرئ بالرفع صفة للولاية وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المنصوب بعامل مقدر. وبالجر صفة للفظ الجلالة. عقبًا قرئ بسكون القاف وضمها. وهما العاقبة كالعُشُر والعُشْر.
تنبيه:
يذكر كثير من المفسرين هنا وجها في هذا المثل. وهو أن الرجلين المذكورين فيه كانا موجودين ولهما قصة. ولا دليل في ذلك ولا اتجاه. فإن التمثيل بشيء لا يقتضي وجوده. وجوّز في هذا المثل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية والتشبيه. وأن يكون المثل مستعارًا للحال الغريبة، بتقدير اضرب مثلًا، مثل رجلين، من غير تشبيه واستعارة. وقد عني بأن الرجلين في التمثيل، مشركو مكة، وما كانوا عليه من الفخر بأموالهم والبذخ بخولهم، وغمط المستضعفين من المؤمنين. وما آل إليه أمر الفريقين، مما طابق المثل الممثل، مطابقة طبقت الآفاق. مصداقًا لوعده تعالى، سيكون الأمر في الآخرة أعلى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا}.
كان صاحبه المؤمن رجلًا صالحًا فحقق الله رجاءه، أو كان رجلًا محدّثًا من محدّثي هذه الأمة، أو من محدّثي الأمم الماضية على الخلاف في المعنيّ بالرجلين في الآية، ألهمهُ الله معرفة ما قدره في الغيب من عقاب في الدنيا للرجل الكافر المتجبر.
وإنما لم تعطف جملة {وأحيط} بفاء التفريع على رجاء صاحبه المؤمن إذ لم يتعلق الغرض في هذا المقام بالإشارة إلى الرجل المؤمن، وإنما المهم التنبيه على أن ذلك حادث حل بالكافر عقابًا له على كفره ليعلم السامعون أن ذلك جزاء أمثاله وأن ليس بخصوصية لدعوة الرجل المؤمن.
والإحاطة: الأخذ من كل جانب، مأخوذة من إحاطة العدو بالقوم إذا غزاهم.
وقد تقدمت في قوله تعالى: {إلا أن يحاط بكم} في سورة يوسف (66) وقوله: {إن ربك أحاط بالناس} في سورة الإسراء (60).
والمعنى: أُتلف ماله كله بأن أُرسل على الجنة والزرع حُسبانٌ من السماء فأصبحت صعيدًا زلقًا وهلكت أنعامه وسُلبت أمواله، أو خسف بها بزلزال أو نحوه.
وتقدم اختلاف القراء في لفظ {ثُمر} آنفًا عند قوله تعالى: {وكان له ثمر} [الكهف: 34].
وتقليب الكفين: حركة يفعلها المتحسر، وذلك أن يقلبهما إلى أعلى ثم إلى قبالته تحسرًا على ما صرفه من المال في إحداث تلك الجنة.
فهو كناية عن التحسر، ومثله قولهم: قرَع السن من نَدم، وقوله تعالى: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} [آل عمران: 119].
والخاوية: الخالية، أي وهي خالية من الشجر والزرع، والعُروش: السُقُف.
وعلى للاستعلاء.
وجملة {على عروشها} في موضع الحال من ضمير {خاوية}.
وهذا التركيب أرسله القرآن مثلًا للخرَاب التام الذي هو سقوط سقوف البناء وجدرانه.
وتقدم في قوله تعالى: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها} في سورة البقرة (259)، على أن الضمير مراد به جدران القرية بقرينة مقابلته بعروشها، إذ القرية هي المنازل المركبة من جدران وسُقف، ثم جعل ذلك مثلًا لكل هلاك تام لا تبقى معه بقية من الشيء الهالك.
وجملة {ويقول} حكاية لتندمه على ما فرط منه حين لا ينفعه الندم بعد حلول العذاب.
والمضارع للدلالة على تكرر ذلك القول منه.
وحرف النداء مستعمل في التلهف.
و{ليتني} تمنٍ مراد به التندم.
وأصل قولهم {يا ليْتنِي} أنه تنزيل للكلمة منزلة من يعقل، كأنه يخاطب كلمة ليت يقول: احضُري فهذا أوانك، ومثله قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} سورة الزمر (56).
وهذا ندم على الإشراك فيما مضى وهو يؤذن بأنه آمن بالله وحده حينئذٍ.
وقوله: {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله} موعظة وتنبيه على جزاء قوله: {وأعز نفرًا} [الكهف: 34].
والفئة: الجماعة.
وجملة {ينصرونه} صفة، أي لم تكن له فئة هذه صفتها، فإن فئته لم تغن عنه من عذاب الله.
وقوله: {وما كان منتصرًا} أي ولا يكون له انتصار وتخلص من العذاب.
وقرأه الجمهور: {ولم تكن} بمثناة فوقية اعتدادًا بتأنيث {فئة} في اللفظ.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف {يكن} بالياء التحتية.
والوجهان جائزان في الفعل إذا رفَع ما ليس بتحقيقي التأنيث. وأحاط به هذا العقاب لا لمجرد الكفر، لأن الله قد يمتع كافرين كثيرين طول حياتهم ويملي لهم ويسْتدرجهم.
وإنما أحاط به هذا العقاب جزاء على طغيانه وجعله ثروته وماله وسيلة إلى احتقار المؤمن الفقير، فإنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى التكذيب بوعد الله استحق عقاب الله بسلب تلك النعم عنه كما سلبت النعمة عن قارون حين قال: {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78].
وبهذا كان هذا المثل موضع العبرة للمشركين الذين جعلوا النعمة وسيلة للترفع عن مجالس الدعوة لأنها تجمع قومًا يرونهم أحط منهم وطلبوا من النبي طردهم عن مجلسه كما تقدم.
{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}.
تذييل للجمل قبلها لما في هذه الجملة من العموم الحاصل من قصر الولاية على الله تعالى المقتضي تحقيق جملة {ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدًا} [الكهف: 42]، وجملة {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله} [الكهف: 43]، وجملة {وما كان منتصرًا} [الكهف: 43]، لأن الولاية من شأنها أن تبعث على نصر المولى وأن تطمِع المولى في أن وليه ينصره.
ولذلك لما رأى الكافر ما دهاه من جراء كفره التجأ إلى أن يقول: {يا ليتني لم أشرك بربي أحدًا} [الكهف: 42]، إذ علم أن الآلهة الأخرى لم تغن وَلايتُهم عنه شيئًا، كما قال أبو سفيان يوم أسلم لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنَى عني شيئًا.
فاسم الإشارة مبتدأ و{الولاية لله} جملة خبر عن اسم الإشارة.
واسم إشارة المكان البعيد مستعار للإشارة إلى الحال العجيبة بتشبيه الحالة بالمكان لإحاطتها بصاحبها، وتشبيه غرابتها بالبعد لندرة حصولها.
والمعنى: أن في مثل تلك الحالة تقصر الولاية على الله.
فالولاية: جنس معرف بلام الجنس يفيد أن هذا الجنس مختص باللام على نحو ما قرر في قوله تعالى: {الحمد لله} [الفاتحة: 2].
والوَلاية بفتح الواو مصدر وَلِي، إذا ثبت له الوَلاء.
وتقدمت عند قوله تعالى: {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} في سورة الأنفال (72).
وقرأه حمزة والكسائي وخلف {الوِلاية} بكسر الواو وهي اسم للمصدر أو اسم بمعنى السلطان والمُلك.
و{الحق} قرأه الجمهور بالجر، على أنه وصف لله تعالى، كما وصف بذلك في قوله تعالى: {وردوا إلى الله مولاهم الحق} في سورة يونس (30).
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف {الحقُّ} بالرفع صفة للولاية، فـ: {الحق} بمعنى الصِدق لأن ولاية غيره كذب وباطل.
قال حجة الإسلام: والواجب بذاته هو الحق مطلقًا، إذ هو الذي يستبين بالعقل أنه موجود حقًا، فهو من حيث ذاته يسمى موجودًا ومن حيث إضافته إلى العقل الذي أدركه على ما هو عليه يسمى حقًا اهـ.
وبهذا يظهر وجه وصفه هنا بالحق دون وصف آخر، لأنه قد ظهر في مثل تلك الحال أن غير الله لا حقيقة له أو لا دوام له.
{وخَير} يجوز أن يكون بمعنى أخْيَر، فيكون التفضيل في الخيرية على ثواب غيره وعُقُب غيره، فإن ما يأتي من ثواب من غيره ومن عقبى إما زائف مفضضٍ إلى ضر وإما زائل، وثواب الله خالصٌ دائم وكذلك عقباه.
ويجوز أن يكون {خير} اسمًا ضَد الشر، أي هو الذي ثوابه وعُقُبه خير وما سواه فهو شر.
والتمييز تمييز نسبة الخير إلى الله.
والعقب بضمتين وبسكون القاف بمعنى العاقبة، أي آخرة الأمر.
وهي ما يرجوه المرء من سعيه وعمله.
وقرأ الجمهور: {عُقُبًا} بضمتين وبالتنوين.
وقرأه عاصم وحمزة وخلف بإسكان القاف وبالتنوين.
فكان ما ناله ذلك المشرك الجبار من عطاء إنما ناله بمساع وأسباب ظاهرية ولم ينله بعناية من الله تعالى وكرامة فلم يكن خيرًا وكانت عاقبته شرًا عليه. اهـ.